|
من سواحل عدن على البحر العربي الى قمة الخليج شمالاً، كانت المنطقة المحاذية للبحر مسرحاً للنفوذ السياسي والعسكري والإقتصادي الغربي منذ الحملات العسكرية الإستعمارية البرتغالية في القرن الخامس عشر الميلادي. والتبشير في ساحل الخليج كان امتداداً طبيعياً لذلك النشاط الإستعماري، بحيث لم تخل منطقة الخليج من مبشرين استهدفوا تحويل الجزيرة العربية ـ مهد الإسلام ـ الى الديانة المسيحية. لكن هذا الطموح العالي، المغالى فيه، أنتج اليوم وبعد ما لا يقل عن قرن كامل من العمل التبشيري (المنظّم) عن مجرد مجاميع قليلة من المسيحيين لا يزيد تعدادها في كل المنطقة الخليجية وفق أعلى التقديرات عن 500 شخص، ليس بينهم مسيحي واحد من المملكة، في حين تشير احصاءات غير دقيقة اخرى الى أن العدد يصل في حدود المائتي شخص فقط، يعيشون عزلة قاتلة، ويتسرّبون واحداً تلو الآخر ليعيشوا في بلاد أخرى. هذه النتيجة القليلة تعتبر انتكاسة حقيقية للتبشير في منطقة الخليج، مهما بالغ البعض في الحديث عن خطورته. في كل مناطق الخليج هناك تاريخ للتبشير يُقرأ، متى بدأ وكيف، وما هي المهام التي قام بها المبشرون ميدانياً، ومن هم، وماذا خلّفوا وراءهم، من بقي ومن رحل، الخ. وحدها منطقة الأحساء والقطيف، او ما يعرف اليوم بالمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية، كانت في منأى نسبي عن التأثّر بالتبشير، وهي حين تذكر فإنّما تذكر بصورة عرضية، لأن مجال نشاط المبشرين (الطبي) فيها كان محدوداً من الناحية الزمنيّة والمكانيّة، إضافة الى أسباب أخرى. كانت المنطقة الشرقية على خارطة عمل المبشرين، فهل تأثرت بنشاطهم، سلباً أو إيجاباً؟. من زارها منهم، متى وكيف ولماذا؟ كيف نظر المواطنون اليهم، وما هو موقفهم منهم؟. ليس صعباً الحصول على أجوبة لهذه التساؤلات، فهناك قدر من المعلومات متوفر من مذكرات المبشرين أنفسهم، كما أن هناك عدداً قليلاً من الدراسات حول هذا الموضوع، من بينها الدراسة المهمة التي قدّمها الدكتور عبد المالك خلف التميمي (التبشير في منطقة الخليج العربي ـ دراسة في التاريخ الإجتماعي والسياسي) ويضاف الى هذا فإن الوثائق البريطانية، خاصة قسم وثائق البحرين في وزارة الهند، تحوي قدراً كبيراً عن موضوع التبشير في البحرين ونشاط الإرسالية الاميركية (العربية) الذي امتدّ الى الساحل الشرقي للجزيرة العربية، منذ تأسيسها أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
مذكرات شريفة الأمريكانية، التي صدرت عن مطبوعات بانوراما الخليج ـ البحرين، تحوي هي الأخرى قدراً من المعلومات عن منطقة القطيف والأحساء وصلتهما بالنشاط التبشيري. الممرضة كورنيليا دالينبرج هي شريفة!، لقد اطلق عليها الأسم يوم وصولها الى البحرين عام 1922، كجزء من التكيّف مع الطقس الإجتماعي المحلّي، ولتبدأ في اليوم التالي ـ كما تقول ـ دروسها العربـية، وقد بقيت في البحرين لمدة تصل الى أربعين عاماً في خدمة الإرسالية (العربـية) ومستشفاها في المنامة. إن موضوع التبشير في البحرين، ومن البحرين الى البر ـ كما يقولون ـ والذي يقصد منه بر الأحساء، قد سبق قدوم شريفة بنحو ثلاثين عاماً، حين قام صموئيل زويمر، المؤسس الحقيقي للإرسالية في نيويورك عام 1889، بزيارة البحرين 1890 و1892، وفي العام التالي أسس في البحرين أول مركز تبشيري في منطقة الخليج. في عام 1893 كان زويمر في زيارة للأحساء والقطيف، بغرض التعرّف عليهما، والبحث في إمكانيّة قيام عمل تبشيري، فكانت ملاحظاته جزءاً من كتابه الموسوم ARABIA: THE CARDLE OF ISLAM والذي حوى تحاملاً على الإسلام وعلى السكان وعلى السلطات العثمانية الحاكمة آنئذٍ، وإن كانت ملاحظاته في الجملة ذات فائدة للباحثين التاريخيين. وشجعت رحلة زويمر تلك، الدكتور هنري وورل الذي اتخذ نشاطه من البحرين مع زويمر، وبرفقة أحد بائعي الكتب برحلة الى القطيف عام 1900، ولم تكن رحلته سهلة، لولا أن وورل كان حاصلاً على شهادة دبلوم تركية تسمح له بممارسة الطب، فكانت الشهادة مفتاحاً له لممارسة التطبيب في منطقة القطيف. في العام التالي 1901، قام الدكتور هاري ويرسوم وأحد باعة الكتب المسيحية بزيارة المنطقة في قارب صغير، وقد اعترضتهم السلطات الجمركية التركية وصادرت الكتب التبشيرية. ويبقى صموئيل زويمر أحد رواد التبشير الذين زاروا المنطقة الشرقية (الأحساء والقطيف) وقد عاود زيارة القطيف والعقير (الأحساء) في عام 1911. أما شريفة (كورنيليا دالينبرج) فتنظر لزويمر نظرة تقديس، وقد استهواها كتابه آنف الذكر وقرأته في أميركا، وقد كان أدريان زويمر أب صموئيل، راعي الطائفة المسيحية في قريتها. وصموئيل أول من قام برحلة تبشيرية طبية، رغم أنه لم يكن طبيباً بل قسيساً، وكان يعتمد على خبرته الضئيلة في بعض نواحي العلاج الطبي مما ساعده على دخول العديد من القرى حيث شهد الوسائل البدائية في خلع الأضراس بالمطارق وأدوات الحدادة، فطلب من الولايات المتحدة بعض معدات خلع الأسنان وكمية من الأسبرين، وكان يحمل هذه المعدات معه في حقيبة سوداء طبية، ورثتها (كونيليا) عنه وبالصدفة!.
إن الطبيب بول هارسون أكثر شهرة من زويمر، ولازال هناك العديد من المواطنين في المنطقة الشرقية (الأحياء) يتذكرونه لأنه أجرى عمليات جراحية لهم، وقد طالت خدمته لثمانية وثلاثين عاماً. والدكتور هارسون يعتبر أكثر الأطباء المبشرين اختراقاً للجزيرة العربية، وإذا كان الناس قد استفادوا من عمله الإنساني في الطب، حيث أنقذ حياة المئات، فإنه لم يفلح على أية حال في المهمّة الأساسية: تنصير شعب الجزيرة العربية. وأكثر ما استطاع فعله هو توزيع الكتاب المقدس، شأنه شأن زملائه الآخرين! وقد كانت شريفة أكثر تأثراً بهارسون وزوجته اللذان استقبلاها أول مرة حين نزلت البحرين، وقد أطلقت (آن) زوجة هارسون إسم شريفة، على كورنيليا، كما وأطلقت إسم طيبة ومنيرة على زميلتيها! تخرج الطبيب هارسون من جامعة جونز هوبكنز عام 1909، وفضل العمل التبشيري على البقاء في الولايات المتحدة، وقد كتب في كتابه: طبيب في العالم العربي : (أريد أن أمهد الطريق للتبشير المسيحي وطريقة الحياة المسيحية ضد جميع أنواع المشاكل الإنسانية والخطيئة. كما أنني أريد ان أمهد الطريق للطب الحديث ضد العادات الطبية التقليلدية). وهكذا انتقل الى مطرح في عمان، وفي بدايات الحرب العالمية الأولى اضطر الى مغادرة عمان الى البحرين للعمل في مستشفى الإرسالية الأميركية، وتقول كورنيليا (شريفة) أن هارسون قدم خدمات لم يحلم أي مبشر أن يقدمها بالمرة. وكان هارسون جراحاً ماهراً، وقد استخدم مصران الغنم والمواشي في علاج الفتق (عمليات الفتاق) الكثيرة في المنطقة الخليجية، وبذا اشتهر كأول من استخدم الأمعاء الحيوانية، كما نشر مقالات في العديد من المجالات الطبية ونال على أثرها حق الزمالة في جمعية الجراحين الأميركيين. يحتمل أن يكون عام 1914، فاتحة زيارات هارسون للقطيف والأحساء بل للجزيرة العربية ككل. ففي ذلك العام قام هارسون بزيارة القطيف لتقديم بعض خدماته الطبية، وكان يرافقه فيها السيد والسيدة فان بيرسام، ولا تشير تقارير المعتمدية السياسية البريطانية الى نشاطه الإنساني في تلك الزيارة، ولكنها تأكدت عبره من خبر وفاة عبد الحسين بن جمعة. وتشير رسالة من المقيم السياسي في الخليج الميجور نوكس الى خارجية حكومة الهند، بأن زيارة هارسون الى القطيف لم تلق أي تشجيع من المعتمد السياسي البريطاني في البحرين، والذي لم يستشار في موضوع الزيارة. ونقل عن هارسون قوله بأنه لقي في زيارته استقبالاً حسناً في القطيف، وأنه متفائل بشأن التطورات التي قام بها موظفو الأمير، وأن هارسون طلب زيارة نجد ولكنه لم يتلق جواباً من ابن سعود. وفي الوثائق البريطانية هناك إشارة الى أن الطبيب والمبشر هارسون قد غادر البحرين الى الأحساء في 9 يوليو 1917 ثم الرياض حسب طلب الأمير ابن سعود، وعاد في 14 أغسطس من نفس العام، ثم عاد فغادر البحرين الى القطيف في 26 ديسمبر 1917. وفي الوثائق أيضاً، فقد قام الدكتور هارسون وزوجته من الإرسالية العربية بالزيارات التالية:
تجدر الإشارة الى أن هذا العام يعد عام نكبة في المنطقة، فقد أُصيبت الأحساء والقطيف وربما نجد بوباء الانفلونزا والإسهال، وقضت على أمير القطيف عبد الله بن عبد الرحمن آل سويلم، وعلى الأمير تركي، الأبن البكر للملك عبد العزيز، وعلى كثير من المواطنين. وفي عام 1927 قام بول هارسون برفقة زوجته والممرضة شريفة بزيارة القطيف من أجل تقديم الخدمات الطبيّة، ودراسة الأوضاع الإجتماعية. وفي عام 1941، زار هارسون الأحساء وكتب حالماً!: (إننا نضع الأسس الصلبة للحصول على موطيء قدم لنا في الصحراء الداخلية الجرداء بين الرجال نصف الجياع من البدو الذين لا يقهرون. إن الناس يتزاحمون حولنا، وهم بحاجة الينا أكثر من أي وقت مضى، ولم يعد المعارضون يناصبوننا العداء، وفي واحدة من الرحلات مستقبلاً سنحصل على الإذن الذي نريده لبناء أول صرح تبشيري في معقل الإسلام)!
في الفصل السادس عشر من مذكرات شريفة، بعض التفاصيل حول إحدى رحلات هارسون للقطيف. تقول:
بين التطبيب والتبشير علاقة قويّة، أقوى ـ بالنسبة لمنطقة الخليج ـ من العلاقة بين الجوع والتبشير، أو بين التعليم والتبشير، وهو العنصر الآخر من نشاط المبشرين في البحرين والكويت وباقي أمارات الخليج. كانت هناك بدائل للتعليم متاحة للسكان، وكانت المنطقة على أبواب فتح مداس أهلية للتعليم، أما بدائل الطبّ فقد كانت قليلة. وقد كانت الخدمات الطبية وسيلة وحيدة لإقناع الناس والسلطات المحلية بقبول عمل المبشرين (الإنساني)، ولطالما ثار الخلاف بين المبشرين بسبب تضخّم الخدمات الطبيّة على حساب العمل التبشيري الأصلي، باعتبار أن التطبيب وسيلة وليس غاية. وكما أن المستشفى وسيلة للعلاج الجسدي فإنه وسيلة للعلاج الروحي، كما يقول بعضهم!. ويعتقد الدكتور هارسون بأن المستشفى يجب أن يكون مكاناً للتبشير بالإنجيل. كان يهم المسؤولين في المنطقة تقديم بعض الخدمات الطبيّة التي توفرها الإرسالية، ولكنهم كما بقية السكان يرفضون موضوع التبشير، إن فهموا منذ البداية بأن ذلك هو مقصد الأطباء، وهو امر مشكوك فيه بالنسبة لمنطقة القطيف والأحساء وما حولهما، فأكثرية السكان لا تعلم بالأهداف التبشيرية وراء التطبيب. تقول شريفة أن أحدى جولاتها كادت ان تقطع لأنها وزعت بضع نسخ من (الكتاب المقدس) وقد كانت تحت المراقبة، فالخدمة الطبية مقبولة وماعداها كان غير مقبول. تقول:
من المؤكد، أن الأكثرية في منطقة الخليج، لم تكن ترغب في الخدمات الطبية التي تقدمها الإرساليات التبشيرية، وهي ـ حسب اعتراف شريفة ـ لا تأت أو تطلب المساعدة إلاّ إذا استنفذت جميع الوسائل للعلاج، وإذا ما وصل المريض قاب قوسين أو أدنى من الموت، حينها يمكن استدعاء الطبيب أو الممرضة إن كان من سكنة البحرين. اما في القطيف والأحساء، فإن القليل من الأغنياء يذهبون للعلاج في البحرين، في حالات نادرة وشديدة الخطورة، أما الأكثرية فهي ليست فقط يصعب عليها السفر والتنقل لفقرها، بل أنها لا تقبل الخدمة من أيدٍ مسيحية. وكثيراً ما سمع المبشرون كلاماً قاسياً في الشارع وغيره من شتم ولعنات، تقول شريفة في أكثر من موقع ما يلي: (كان الوضع في البحرين لا يمكن وصفه عام 1912.. وعندما يخرجون للنزهة، يتبعهم الأطفال ويلقون عليهم كلاماً يفهم منه بأن المسيحين كفار). وفي موقع ثان تقول أنها حين عادت لأول مرة الى موطنها اميركا: (سألونا إن كنّا نعتبر كفرة هناك؟ فقلت نعم، ولطالما كان الناس يدعون الدكتور ديم عندما يرونه في الشارع بالملحد ويقولون : إن شاء الله تهلك أيها الكافر!). وقالت في موقع ثالث بأن راعياً مرّ عليها (وسمعته يقول شيئاً أشبه ما يكون بالدعوة علينا لنموت قبل نهاية الليل). وإذا كان مبرر التطبيب هو الأساس في عملية التبشير، فإن توفّر الخدمات الطبيّة من قبل حكومات المنطقة وإن جاء بشكل متأخر، فقد قضى على أيّ أمل للمبشرين في توسيع نشاطهم وكسب الزبائن. لم يحدث هذا إلاّ بعد ظهور النفط، وحينها ايضاً ترافق التطبيب المجاني مه انتشار التعليم المجاني، وبالتالي (أصبحنا بالفعل نشعر ببعض التواضع في حضرة ثروة النفط) كما تقول الممرضة كورنيليا دالينبرج.
تقدّم مذكرات الممرضة كورنيليا (شريفة)، بشكل مجمل، فكرة واضحة عن نوعية الأمراض التي تصيب هذه المنطقة من العالم، وبينها القطيف بلا شك. فقد تحدثت عن بعض الأمراض الوبائية المنتشرة، كالطاعون الأسود، الذي جاء به ستة من الهنود توفوا بسببه، وكيف بدأ التطعيم ضده، ومكافأة الأربع آنات لكل من يصطاد فأراً! ومن الأمراض المنتشرة في المنطقة الفتق أو الفتاق، وقد كان تشخيصها له أن أكثر الرجال يقومون بحمل الأشياء الثقيلة الأمر الذي يؤدي الى ضعف العضلات. كما وتحدثت عن مرض التراخوما، وقد كان علّة العلل، وكانت القطيف تفوق البحرين في عدد المصابين، أما الأحساء فمصابوها أقل من ذلك، لان طقسها أفضل. تقول عن التراخوما:
|
|